أهازيج الحياة
بين هديل الصباح وتغاريد المساء
لم يكن مساءً عادياً
فهو يوافق نهاية شهر ديسمبر
وليلة عام جديد.
كان النصيب الأوفر في ذلك اليوم للأشياء الجديدة.. كانت تتوالى واحدة تلو
الآخرى؛ فقد حصلت على طقم أكواب قهوة بيضاء منقوشة بنقش فارسي عريق الطراز،
أزرق اللون، وتغطي الفضة حوافه العلوية.. جاءتني هدية من شخص عزيز،
وبمناسبتها أعدت لنا أمي كعكة الدّخُن المحشوةِ بالتمر، وعلى رائحة الكعك
ألهمني الله بأن أكتب بعدما طال بي الأمد وانقطع مدادي لفترة كنت أجتهد
فيها على الاعتكاف على كتب الطب؛ فقد كانت آخر سنة في الكلية. أشرقت شمس جديدة في حياتي، آمل ألا تغيب.. فقد أصبحت مصدر إلهام في زمنٍ جفت منابع الإلهام فيه. على مدار أربعٍ وعشرين سنة أسكن حي المعابدة في شارع يبعد عن الحرم المكي دقائق معدودة، ولمدة خمسة عشر عامًا أعيش في الجهة الشرقية، في الطابق الأول من شقة في حي بسيط. يُطمئنُني المكان؛ فهو متوافق مع ما كانت عليه السيدة مريم ـ عليها السلام ـ التي انتبذت من أهلها مكاناً شرقيّا.
اما أُسرتي؛ فتجمتع كل يوم في الجهة الغربية من المنزل حيث هي غرفة الجلوس.. لا يتميز منزلُنا بشيء؛ فعادة ما يكون لدى العوائل الأخرى "الحوش أو السطوح" حيث تصلح فيه الجلسات. خاصةً في الأيام الشتوية، وبطبيعة الحال نحن لا نملكهما. كنت أتحسر على ذلك، وأغبط من يستطيع توديع الشفق كل يوم.. ورؤية البدر في منتصف الشهر بكامل حلته ومن يسهر مع النجوم ويستقبل الشمس التي تطل كل يوم بأطالسها وترسم مع الغيوم مباسمها لكن الخالق يأخذ منك ويعطيك، وإدراكك لذلك نعمة. ففي تلك الليلة أدركت أنني أستقبل الصباح بهديل الحمام وأودع أمسيتي بأهازيج وتغاريد الطيور. نافذة غرفتي الشرقية تطل على مساحة صغيرة بسبب عمارة السعدي المقابلة لنا، لكن تلك المساحة محاطة من الجهة العلوية بشبك قديم وضعه السعدي خوفًا من لصوص آخر الليل.. ـ رغم أن المنطقة معروفة بهدوء شوراعها، ويندر وقوع السرقات فيهاـ فاتخذت منه الحمام عشًّا لها تأوي إليه كل مساء بهدوء.. وقبل ظهور الخيط الأبيض من الفجر يستقيظ بهديله المتكرر الذي يَجِيءُ تارةً جماعياً أو فرديًا مُضيفاً للفجرِ أهازيج تنعش السماء، وتطرب من ينصت إليها. كنت أسمع ذلك كل يوم، وقد يستمر إلى الضحى في بعض الأيام. ولكن أنَّى لي أن أدركه! وكذلك الواجهة الغربية؛ فهي تطل على أشجار زرعها المصري على جانبي بوابة عمارته.. تصيرُ في الليل وكأنهما عملاقين لكل واحد منهما سبعين ذراعا! يحرسان البوابة، ويلتفتان يمنة ويسرى مع كل همسة ريح. هي أيضا تسكنها العصافير، وفي غداتها أجمل الأهازيج،تزيد ألوانها شوقا وغرقا..
كم من نعمة أبى العقل أن يدركها، تعادل وتتجاوز ماكتبت! هي بصيرة العقل إن أُوتيتها؛ أوتيت خيرا كثيرا.
الخبر السيء أن المصري قطع أشجاره بعدما تمردت إحداها ومالت، واشتكى منها الجيران.. حيث أصبحت أغصانها تغطي نوافذهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق